محمد بوزيان بنعلي ـ عضو المجلس العلمي المحلي لفجيج
نص المداخلة التي ألقاها الأستاذ محمد بوزيان بنعلي في مهرجان تالسينت يوم السبت : 23 غشت 2013 م ..
يطيب لي وأنا وسط هذا الجمع المبارك الحاشد أن أنبش فيما تحت يدي من مصادر مخطوطة ووثائق محلية عن صفحات مغمرة عن تاريخ تالسنتْ ومنطقتها ، وما يحتوي عليه من مظاهر التواصل والعلاقات المختلفة بفجيج .. ولعل أول إشارة تجدر إثارتها هنا تتعلق بشخصية الشريف النسيب ، الولي الصالح ، والكوكب الدرّي اللامح ، موْلاي عْلي بن عمرو ، الذي يعتبر جدا لمجموعة من الأسر الفجيجية .. هذه الشخصية التي يعقد لها هنا مهرجان سنوي ، ولكننا مع ذلك لم نستطع أن نوليه حقه من العناية والاهتمام ، وذلك بالكشف عن مزيد جوانب حياته المتنوعة في اهتماماتها ، وإلقاء الأضواء على سيرته ومسيرته ، عوض النظر إليه كولي صالح ليس إلا .. بل إن هذا الغبن ما زال يطال عددا من أعلام المنطقة ورجالاتها الأفذاذ.. وأعتقد أن الأوان آن لشحذ الأقلام وسنّها للكتابة عنهم ، وتقديمهم للأجيال ، طلبا لوصل اللاحق بالسابق ، وأملا في إطلاع الجيل الحاضر على جزء عزيز من تاريخ أجدادهم العريق في كل شيء ..
ومن رجالات المنطقة التي لا أظن أن أحدا سمع عنها ، نذكر :
- الحاج محمد بن حمزة التجيتي : وهو من أهل النصف الثاني من القرن التاسع الهجري والأول من العاشر ، حج واعتمر ، ودفعه طموحه العلمي وتعلقه بكتاب الله وتجويده ومدارسته إلى زاوية بني عبد الجبار بفجيج للأخذ عن علمائها ، فجلس إلى حلقات الإمام عبد الجبار ، ثم ابنه مْحمد ، فتلقّى عنه علوم الحديث والقرآن ، ولزم مجالس إقرائه وتابع معه بحضور وتركيز مشاهد إجازاته في ملأ من نجباء الأعلام ، وفطناء الأحلام ، نذكر منها على سبيل المثال شهادته على الإجازة المطلقة العامة التي منحها عام 912 هـ للطالب النجيب سليمان بن محمد الونشريسي .. ولا نعلم عن هذه المقرئ التجيتي شيئا آخر بعد تلك السنة .. هل بقي في فجيج واستوطنها ؟ أم هل عاد إلى بلده بعدما تضلع من العلوم ؟ ما الأنشطة العلمية التي قام بها ؟ هل له مساهمات علمية ما ؟ متى توفي رحمه الله تعالى ؟ هذه أسئلة نطرحها وعسى أن يجود الزمان بالإجابة عنها مستقبلا
ومن شخصيات المنطقة التي يجب علينا معرفتُها :
- الحاج أبو القاسم الأنوالي : ونرجح أنه ولد حواليْ عام 1040 هـ ، وتلقى مبادئ المعرفة الدينية في كتاتيب بلدته على السنن المعروف آنذاك ، ولكننا لا نعرف تفاصيل حياته .. ولو لم يتحدث عنه الرحّالة العلاّمة شيخ الزاوية الناصرية أحمد بن مْحمد بن ناصر الدرعي في رحلته البديعة عام 1121 هـ ما عرفه أحد منا .. فلقد وصفه فيها بمحبنا المسن وذكر أنه رافقه في رحلته الحجية عام 1109 هـ ، وأثنى على كرمه وحسن سمته ، قال : ” وشيعنا إلى هنا ( يعني ضواحي القنادسة ) محبنا ورفيقنا في هذه الطريق المباركة عام تسع (كذا ) المسن الحاج أبو القاسم الأنوالي ، وأتى الله من عنده بزقّيْن من سمن ، ودفعته لحفيد عمي ، فالله يتقبّل منهم ” ووجود الأنوالي في القنادسة آنذاك يؤكد أنه كان من خاصة مريدي زعيم زاويتها الشيخ مْحمد بن أبي زيان القندوسي المتوفى عام 1145 هـ ، ومعلوم أن زاويته آنذاك كانت أشهر من نار على علم ، يفد عليها المريدون من كل حدْب وصوب ، منهم من يكتفي بالزيارة والعودة ، ومنهم من يصل به التأثر بسلوك رئيسها وزعامته الروحية إلى حد الاستقرار كما فعل أبو القاسم الأنوالي رحمه الله .. وهو أيضا لا نعرف عنه إلا ما ذكره ابن ناصر من أنه كان شيخا طاعنا في السن ..
وفي ذات الاتجاه لابد من ذكر الشيخ محمد البوعناني ، وهو من أهل بوعنان خلال القرن الثاني عشر الهجري ، رحل إلى فجيج لطلب العلم ، واستقر بها قاضيا ، وبهذه الصفة ألمع إليه صاحبه مؤلف منهل الظمآن فقال : ” الفقيه العلاّمة سيدي محمد البوعناني قاضي أحد قصورها ( أي فجيج ) .. ولا يخفى علينا وجود علماء بوعنانيين لامعين مبرزين لكننا لا نستطيع أن نقطع بنسبتهم إلى بلدة بوعنان منهم العالم الجهباذ محمد بن محمد البوعناني المتوفى عام 1063 هـ ، والعلاّمة العلم عبد الواحد البوعناني المتوفى عام 1106 هـ وسواهما وعلي الشريف البوعناني الذي ذكره المراكشي في كتابه الإعلام بمن حل بمراكش وأغمات من الأعلام ، ومحمد بن مسعود البوعناني المتوفى عام 1191 هـ كما ضرب إليه عبد السلام بن سودة في كتابه إتحاف المطالع والعلاّمة الأستاذ إدريس بن الحسن البوعناني …
ولا يفوتنا ونحن نذكر القنادسة وزاويتها الصوفية أن نتجاهل الإشارة إلى أن علاقتها بتالسينتْ ومنطقتها كانت علاقة قوية جدا ، فقد انغلقت مساكنها على عدد معتبر من مريدي ابن أبي زيّان ، بل كان بها تمثيليات وفروع للزاوية ، كما كانت محطة استراحة في طريق القادمين إليها من ميسور وحتى مكناس وفاس وغيرهما ، وهو ما وجدناه في كتاب الشيخ العارف علي بن عبد القادر التازي أحد مريدي القندوسي المخلصين ، وقد سماه ” منهل الظمآن ومزيل الكروب والهموم والأحزان في كرامات شيخنا العارف بالله سيدي مْحمد بن أبي زيان ” .. ومن الأماكن التي ذكرها الكتاب الذي لا يزال مخطوطا : بني تاجيت ، وغزوان ، وخنيك الصفصاف قرب غزوان وبني باصية .. وكان قريبا منها محلّة اسمها ” ثْنيّة الحلفا ” ينصب فيها زوار الزاوية خيامهم ، يقول صاحب المنهل : ” فلما كنا في اليوم الثاني في الطريق بتْنا في موضع يُقال له ثْنيّة الحلفا ” بحذاء بني باصية .. “
أما بني تجيت فقدعاش فيها عدد من مريدي الشيخ مْحمد بن أبي زيان المذكور منهم رجلا لم يُسمّه كان من أعز أصحابه ، يحترمه ويقدّره ويقرّبُه بعدما رافقه في رحلته الحجية والذي يفهم من هذا المخطوط أيضا أن المنطقة زارها عدد من العلماء والعارفين والصلحاء ، على رأسهم مؤلّف منهل الظمآن شخصيا ، فقد كان يبيت ببني تجيت في طريقه إلى زيارة شيخه قبل أن يلازمه ويستقر عنده ، يقول في هذا السياق : ” عندما رجعنا من الزيارة وبتنا في قرية يقال لها بني تجيت ، جاء إلينا قوم من البربر يقال لهم آيتْ عيسى ظنوا أن معنا تجارا ، فجاؤوا وتلصصوا علينا وأخذوا متاعنا … ” ومن الذين زاروها أيضا ابن شيخ الزاوية القندوسية سيدي أحمد البداوي جاء مبعوثا من قبل والده ليتوسط بين آيتْ عيسى ومريدي والده .. ومن أشهر الزوار الذين مروا ببني باصية العلاّمة الشهير إدريس المنجرة ، وكان ذلك عام 1136 هـ ، وهو في الطريق إلى القنادسة ، وكان معه في ذلك الركب المهيب العلاّمة العارف الزاهد الورع العربي الشامي ، وكوكبة مختارة من الصلحاء والعلماء ..
ويقدّم لنا كتاب منهل الظمآن جانبا آخر من الحياة الاجتماعية في المنطقة ، ويتعلّق الأمر بالمستوى المعيشي الذي كان مترديا ، فجل الناس كانوا فقراء ، وتزداد معاناتهم في ظروف القحط والكوارث الطبيعية ، مما يفسح المجال لظهور انحرافات اجتماعية كاللصوصية ، وننقل هنا نصا يؤكد ذلك :
” .. فلما كنا في اليوم الثاني في الطريق بتْنا في موضع يُقال له ثْنيّة الحلفا ” بحذاء بني باصية جعل الشريف المذكور ( إدريس المنجرة ) يمنع الناس من إيقاد النار ومن الكلام والتحرك ؛ وذلك من شدّة الخوف الذي لحقه .. وكنا نائمين في القيطون ، فإذا باللصوص قد جاؤوا إلينا ، ووقفوا على رؤوسنا ، وجعلوا يهدّدوننا ، ويقولون لنا لا نترككم ، فقلنا لهم : نحن زوّار أبي زيّان .. فقالوا لنا : كذبتم ، نحن نعرف الزوّار ، إن الزوّار فيهم الحاج العربي الشامي ، قلنا لهم : هو الذي يتكلّم معكم .. فلما سمعوا ذلك أوقدوا نارا حتى رأوْه ، وطاحوا على وجوههم يعتذرون ويطلبون منا الصفح ؛ لأنهم خافوا على رؤوسهم لما يعرفونه من غيرة الله تعالى على الشيخ وعلى من انتسب إليه ، فأخرجنا لهم عند ذلك شيئا من التمر ، فأكلوها ، وقالوا لنا : لا يجلس أحد منكم هنا ، نخاف من لصوص آخرين يأتون إليكم .. فسألناهم من أي بلدة ومن أي قبيلة هم ؟ فقالوا : هم لصوص كل واحد منهم من قبيلة ، أضرّ بهم القحطُ والجوع ، فخرجوا في طلب الأقوات ، ومع ذلك لا يقدرون على من انتسب إلى الشيخ.. “
إن هذا النص يميط اللثام عن حقيقتيْن هامتيْن :
- أولاهما : أن انتشار اللصوصية لم تكن طبيعة متأصلة في نفوس متعاطيها ، بقدرما كان وراءها عامل الجدب والقحط والمجاعات والغلاء والكوارث الطبيعية .. ثم إن الظاهرة لم تكن حكرا على هذه المنطقة ، ومن يطالعْ كتب الرحلات المغربية يتبيّنْ له أنها ظاهرة غطّتْ سائر الأمصار والأقطار في المغرب كما في المشرق العربييْن ..
- ثانيهما : هذا الاعتقاد الكبير في الأولياء والصلحاء وأرباب الطرق الصوفية ، كان قاسما مشتركا بين القمة ممثلة في العلماء والفقهاء ، والقاعدة التي يمثلها العامة بمختلف شرائحها متقيهم ومنحرفيهم ، وقد تصل لدى بعضهم إلى درجة التقديس والمغالاة في الإيثار ..
ونختم هذه الصور الاجتماعية بالإلماع إلى وجود طائفة من اليهود تعايشت مع المجتمع المحلي في سلم وألفة ، وقد وجدتُ في مجلة ” نهضة الشعب اليهودي ” وهي مجلة نصف شهرية كانت تصدر بفرنسا ، وجدتُ مقارنة بينهم وبين يهود تيزنيت من حيث الزي الذي تتميز به نساؤهم ، نفضل أن نورد النص بأصله الفرنسي :
« Les juives mariées ici ( à Tiznit ) comme à Talsint portent une sorte de gros bandeau en fils d’argent tressés , avec des cabochons de verre ou de fausses pierres , qui est d’un effet très pittoresque . Elles arborent encore des bracelets assez lourds et , sur la tête , des assemblages de chaines et de grosses plaques ornées à la cire qui sont assez barbares . Les tresses des enfants sont couvertes de bagues aussi crasseuses que les cheveux dont quelques-unes ne manquent pas d’un certain caractère décoratif »
وننتقل بعد هذه الجولة السريعة في مضماري العلم والمجتمع إلى موقف المنطقة من المحاولات المبكرة التي قادتها السلطات الفرنسية للتغلغل في المنطقة بعد سقوط جدار فجيج وقلعتها الشامخة غداة قصف زناقة عام 1903 .. فالمعروف تاريخيا أن المنطقة بأسرها كانت تدين بالولاء للمخزن رغم سلطته الرمزية الضعيفة عليها ، هذه الظروف حرّكت مطامع فرنسا المستعمرة للجزائر ، فأرسلت إلى المنطقة طلائع لاستكشافها ودراستها الشاملة تمهيدا لتطبيق مبدئها الذي ابتكره ليوطي تحت اسم التغلغل السلمي في المغرب .. وهكذا ارسلت وفودا إلى منطقة تالسينتْ لدراستها جيولوجيا وجغرافيا وتاريخيا واجتماعيا وعمرانيا كما فعلت مع سائر مناطق المغرب ، ودون أن أدخل في تفاصيل ذلك أستحضر هنا مثالا واحدا هو عبارة عن جولة استطلاعية أمر بها حاكم عين الصفراء في العشرين من أبريل عام 1910 ونفذها فريق فرنسي في السابع من ماي الموالي ، وقد استغرقت الرحلة ثلاثة أسابيع ، وسجلت تفاصيلها في تقرير تحت عنوان ” استكشاف في منطقة معتركة ـ أنوال ” تضمنته إحدى المجلات العسكرية الفرنسية .. وهو تقرير حرره قائد الفريق الكابيتان ( Vernaz ) في أكثر من ثلاثين صفحة ، يحتوي على معلومات مفيدة للغاية ، وهو إلى ذلك معزز بخرائط مهمة ودقيقة آنذاك ..
وفي مرحلة ثانية دفعتها مخططاتها الاستعمارية البغيضة لتجاوز المخزن ، فأقدمت على الاتصال المباشر بشيوخ القبائل رغبة منها في استمالتهم وعقد الاتفاقيات مباشرة معهم ، وهو الأمر الذي تصدى له جلهم بالرفض وإرجاع الأمر إلى السلطات الشرعية في البلاد .. ومن هنا انبثق وعي مبكر بضرورة مقاومة هذه المحاولات ومواجهتها بكل بأس وقوة قبل توقيع عقد الحماية وبعده .. ولنا في هذا الإطار شهادات كثيرة جدا استقيناها من التقارير والمراسلات والمجلات والصحف الفرنسية التي كانت تصدر في تلك الحقبة ، وأحسب أن جلّها لا زال غميسا لم يُطّلعْ عليه بعدُ .. هذه المصادر أرخت لحركات المقاومة المبكّرة بشتى أشكالها فتحدثت عن المواجهات المباشرة ، وحرب العصابات ، ونصب الكمائن ، ومباغتة الكتائب ، ردا على الأعمال الوحشية التي كانت تنفذها مدافعهم ضد القصور ، ولقد نتج عن ذلك استشهاد عدد من أهل المنطقة وتدمير منازلهم ، ومقتل عدد من الفرنسيين بينهم أصحاب المراتب العسكرية العالية.. فقد جاء في خطاب بعثه الجنرال [ Bailloud ] من الجزائر العاصمة إلى وزير الحربية الفرنسيية الجنرال [ Picquart ] : ” إن الجنرال [ Vigy ] بعث إليه من بني تاجيت رسالة يذكر فيها أنه في الحادي عشر من شهر ماي 1908 حمل على آيْت يعقوب فأخلى قصورهم من ساكنتها ، ووجد فيها كمية معتبرة من المؤن المختلفة قام بتوزيعها على جنوده .. وفي الرابع من ماي قام ومعه كتيبة تحت قيادة الكولونيل [ Pierron ] بحملة على دويرة السبع ، فتصدى لهم أهلها بأسلحتهم ، وكانوا حواليْ المائتيْ نسمة ، لكنه ردّ عليهم بقنبلة القصر كله حتى زعزعه ، على حين هرب سكانه ليتحصنوا بالجبال الوعرة ، لكن هذه المقاومة لم تدم غير ساعة ، تمكن بعدها من هدم القصر كليا ” .. ومن اليقين الذي لا يحتاج إلى تأكيد أن تدمير دويرة آيْتْ سبع ما هو في الحقيقة إلا انتقام من الشريف المجاهد البطل مولاي أحمد بن الحسن السبعي الذي اتخذها مركزا رئيسا لانطلاقاته وحملاته كما صرح بذلك الجنرال [ بايود ] شخصيا .. وللتاريخ نؤكد أن هذه الشخصية لا زالت مغبونة بصورة مجحفة في المشهد التاريخي المغربي ، رغم منزلته العلمية المتميزة ، وبطولاته الخارقة .. وورد في ” أرشيف الحرب الفرنسي ” أنه بتاريخ 29 ماي 1910 اندلعت معركة بين قبائل تالسينتْ وكتيبة أنوال الفرنسية خلفت وراءها خسائر من الجانبيْن ، وسماها التقرير [ Affaire de Talsint ]
ويستفاد من الكتابات الفرنسية أن مركز المقاومة أو القلاقل والاضطرابات بالتعبير الفرنسي كان يوجد بصفة خاصة في قصور تالسينتْ ودويرة السبع المأهولة من قبل مرابطي درقاوة وعلى رأسهم السبعي الذي أقض مضاجع الفرنسيين لسنوات طوال
ويستفاد منها أيضا أن عام 1908 كان من أكثر السنوات مواجهة ، واشدها شراسة على الجانبيْن ، ويكفي أن نشير في هذا المجال إلى معركة أنوال في الثاني من دجنبر عام 1908 ، وقد شغلت حيّزا معتبرا في أدبياتهم ، بينما أغفلناها نحن أبناء المنطقة ، فلم نعرْها ما تستحقه من اهتمام ، وأتجاوز لحظات القتال لأستحضر وصف أحد مراسم جنازة واحد من قتلاهم المتميزين في تلكم الملحمة ، يقول النص : ” كانت جنازة ابن داود [ maréchal des logis ] الذي قتله الأعداء في الثاني من دجنبر مناسبة للحاضرين للتعبير عن مظاهر التأثر والتعاطف .. فمنذ الساعة الثامنة خرجت كل السلطات المحلية : الجنرال [ Bailloud ] ، والجنرال [ Wetzel ] و الجنرال [ Espinasse ] ، وضباط الحامية العسكرية ، وقد نظّم هؤلاء استعراضا جنائزيا مهيبا في بيت القتيل ، قبل أن يتم تشييعه بموسيقى حزينة أدتها كوكبة من الجنود [ zouaves ] “
ومن أكثر القبائل احتكاكا مع الفرنسيين آيت بوشاون وآيت حمو ، كما حصل في أواخر شهر ماي 1910 إثر مغادرة كتيبة وادي كير من أنوال حيث اجتمعات بالجنرال ليوطي الذي كان متواجدا بها آنذاك ، متوجهة إلى بودنيب عبر تالسينت ، فقد باغتها جمع من قبيلة آيتْ حمو ، وذكر الخبر أن القوات الفرنسية استطاعتْ تفريقها دون إشارة إلى أي خسائر من الجانبيْن … وأخبار هذه القبيلة وغيرها وبطولاتهم الرائعة في مناجزة الفرنسيين منتشرة في جرائدهم لا يمكن أن تستوعبها هذه المداخلة المحدودة نمثل لها بما سمته المجلة الدبلوماسية : السفارات والقنصليات ” كمين كولومب بشار ” عام 1928 في مقال افتتحته بما يلي : ” علمنا أنه في 28 دجنبر 1928 سقط واحدا من جنودنا الأبطال الأشاوس : إنه الجنرال [ Clavery ] قائد منطقة عين الصفراء ، سقط في الحدود الجزائرية ـ المغربية في كمين كلفه حياته ، وقُتل معه الكابيتان [ Pasquet ] رئيس مكتبه و [ Pehenne ] واثنان آخران .. ويسترسل الحديث عن الكمين كاشفا أن آيتْ حمّو القبيلة المنشقة هي التي نفذته بمؤازرة فصائل من قبيلة ذوي منيع
إن الاهتمام الفرنسي المبكر بالمنطقة عائد إلى موقعها الاستراتيجي كمنفذ نحو تخوم الأطلس ومقدمة للمناطق الوعرة بتضاريسها ، المستعصية برجالاتها الأشاوس الأفذاذ ، وتوقعهم الذي لم يخب بوجود معادن مما كان يسيل له اللعاب الفرنسي في المغرب .. وبالفعل فقد تحدثت كتاباتهم عن سعيهم الحثيث منذ وقت مبكر إلى البحث عما تختزنه أرضها من نحاس ، وكبريت الرصاص الخالص الذي كان ينتج منه منجم بني تاجيت 124 طنا شهريا ، أي بمعدل أكثر بقليل من أربعة أطنان يوميا .. ولم يقف الأهالي متفرجين أمام هذا الاستغلال البشع ، وإنما كانوا يعكرون صفوه بغارات وهجومات على القوافل التي كانت تنقل المعادن ، وحتى على المسؤولين المحليّين والزائرين ، وفي هذا السياق نشير دون تفصيل إلى الهجوم الذي تعرض له الفرنسي الشهير[ René Estienne ] وهو في طريقه إلى مناجم ضواحي بني تجيت بتاريخ : 18 ماي 1927 ، ضمن موكب رفيع ضم عشر سيارات انطلقت في موكبيْن ، وفي فج أو ثنية بلقاسم باغته مجموعة من المقاتلين ، أطلقوا عليه نيرانا كثيفا فأردوْه قتيلا مع سائقه وأربعة من مرافقيه .. بينما نجا الآخرون وانسحبوا إلى بني تاجيت لطلب الدعم والإسناد .. وأخبار هذه الحادثة مبثوثة في أكثر من مصدر فرنسي
ومع احتلال فرنسا للمغرب بدأت في نهب خيراته واستنزاف شعبه دون تمييز ، فأكرهتهم على المساهمة في شتى المنجزات ، وتقديم الإعانات في حالات الكوارث ، فحتى مسجد باريس الذي يظن البعض أن فرنسا هي التي شيّدته بمجهوداتها بُني في الحقيقة بأموال مغاربية من دون استثناء ، وثمة لوائح تحمل أسماء المساهمين في شتى المناطق تؤكّد ذلك وتؤرخ لهذا الاستنزاف المرعب .. بل إنها أرغمت شبابهم على الدخول معها في الحربيْن العالميتيْن كما أشرنا في كتابنا الأخير ، ونقدم هنا أسماء أربعة مقاتلين أسرتهم ألمانيا في بدايات الحرب العالمية الثانية عامي 1940 و1941 وهم :
- محمد بن دلمانْ ، وهو من مواليد 1900 بتالسينتْ
- حمو بن محمد ابيارْ ، وهو أيضا من مواليد تالسينتْ عام 1915
- عبد الرحمن ولد لحسن ، ولد عام 1900 بتالسينتْ .. وهؤلاء وغيرهم مسجلون في اللوائح الفرنسية على أنهم سجناء فرنسيون ، ومنهم من قتل في ميادين المعركة وجبهاتها المختلفة .
سبق التأكيد آنفا أن الاستمرار في عرض التفاصيل ليس متيسرا لنا نظرا للإكراهات المحيطة دائما بالعروض والمداخلات المناسباتية ، إلا أن ذلك لا يمنعنا من التأكيد على أننا لم نمط الحجاب إلا على صفحات قليلة ، وأن ثمة صفحات أخرى مجهولة ومغمورة من تاريخ هذه المنطقة ، تبقى مسؤولية استكشافها وإظهارها ملقاة على عاتق أبنائها أولا ، وعلى عواتقنا ـ نحن أبناء المنطقة ـ ثانيا
الله الموفق والمستعان .. والسلام عليكم ورحمة الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق